(من سره أن ينظر ألي رجل يمشي على الأرض و قد قضى نحبه ، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) [سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]
كان طلحة بن عبيد الله التيمي يمضي مع قافلة من قوافل قريش في تجارة له إلى بلاد الشام ، فلما بلغت القافلة مدينة بصرى (1) ، هب الشيوخ من تجار قريش إلى سوقها العامرة يبيعون ويشترون .
و على الرغم من أن طلحة كان شاباً حدثاً (2) ليس له مثل خبرتهم في التجارة ، إلّا أنّه كان يملك من حدة الذكاء و نفاذه البصيرة ما يتيح له منافستهم ، و الفوز من دونهم بأفضل الصفقات .
و فيما كان طلحة يروح و يغدو في السوق التي تموج بالوافدين عليها من كل مكان ، حدث له أمر لم يكن سبباً في تغيير مجرى حياته كلها فحسب . . .
و إنما كان بشيراً بتغيير سير التاريخ كله . . .
فلنترك الكلام لطلحة بن عبيد الله ليروي لنا قصّته المثيرة .
قال طلحة : بينما نحن في سوق بصرى ، إذا راهبٌ(3) ينادي في الناس :
يا معشر التجار ، سلوا أهل هذا الموسم (4) ، أفيهم أحد من أهل الحرم ؟
و كنت قريباً منه فبادرت إليه و قلت : نعم أنا من أهل الحرم(5)
فقال : هل ظهر فيكم أحمد ؟
فقلت : و من أحمد ؟!
فقال : ابن عبد الله ابن عبد المطلب . . .
هذا شهره الذي يظهر فيه . . .
و هو أخر الأنبياء . . .
يخرج من أرضكم من الحرم ، و يهاجر إلى أرضٍ ذات حجار سود ، و نيل و سباخ (6) ينز (7) منها الماء . . .
فإيّاك أن تسبق إليه يا فتى .
قال طلحة : فوقعت مقالته في قلبي ، فبادرت إلى مطاياي(8)
فرحلتها(9) ، و خلفت القافلة ورائي ، ومضيت أهوي هوياً(10) إلى مكة .
فلمّا بلغتها قلت لأهلي : أكان من حدث بعدنا في مكة ؟
قالوا : نعم ، قام محمد بن عبد الله ، يزعم أنه نبي ، و قد تبعه إبن أبي قحافة ( يريدون أبا بكر ) .
قال طلحة : و كنت أعرف أبا بكرٍ ، فقد كان رجلاً سهلاً محبباً موطّأ الأكتاف(11) . . .
و كان تاجراً ذا خلق و استقامةٍ ، و كنا نألفه ، و نحب مجالسه ، لعلمه بأخبار قريش ، وحفظه لأنسابها .
فمضيت إليه وقلت له : أحقاً ما يقال من أن محمد بن عبد الله أظهر النبوة ، و أنك اتبعته ؟ !
قال : نعم . . . و جعل يقص علي من خبره ، و يرغبني في الدخول معه ، فأخبرته خبر الرّاهب ، فدهش له و قال :
هلمّ(12) معي إلى محمد لتقص عليه خبرك ، و لتسمع ما يقول . . . و لتدخل في دين الله . . .
قال طلحة : فمضيت معه إلى محمد فعرض علي الإسلام ، و قرأ علي شيئاً من القرآن ، و بشّرني بخيري الدنيا و الآخرة .
فشرح الله صدري إلى الإسلام ، و قصصت عليه قصة راعي بصرى فسر بها سروراً بدا على وجهه.
ثم أعلنت بين يديه شهادة أن لا أله إلّا الله و أن محمداً رسول الله . . .
فكنت رابع ثلاثةٍ أسلموا على يدي أبي بكر .
وقع إسلام الفتى القرشي على أهله و ذويه وقوع الصاعقة .
و كان أشدهم جزعاً(13) لإسلامه أمه ، فقد كانت ترجو أن يسود قومه لما يتمتع به من كريم الشمائل و جليل الخصائل . . .
و قد بادر إليه قومه ليثنوه عن دينه فوجدوه كالطود(14) الراسخ الذي لا يتزعزع .
فلما يئسوا من إقناعه بالحسنى لجؤوا إلى تعذيبه و التنكيل به . . .
حدّث مسعود بن خراش قال : بينما كنت أسعى بين الصفا و المروة(15) ، إذا أناس كثير يتبعون فتى أوثق يداه (16) إلى عنقه . . . و هم يهرولون وراءه ، و يدفعونه في ظهره ، و يضربونه على رأسه .
و خلفه امرأة عجوز تسبّه و تصيح به . . .
فقلت : ما شأن(17) هذا الفتى ؟!
فقالوا : هذا طلحة بن عبيد الله ، صبأ(18) عن دينه ، و تبع غلام بني هاشم . . .
فقلت : ومن هذه العجوز التي وراءه ؟
فقال : هي الصعبة بنت الحضرمي أم الفتى . . .
ثم أن نوفل بن خويلد الملقب بأسد قريش ، قام إلى طلحة بن عبيد الله فأوثقه في حبل ، و أوثق معه أبا بكرٍ الصديق ، وقرنهما معاً و أسلمهما إلى سفهاء مكة ليذيقوهما أشدّ العذاب . . .
لذلك دعي طلحة بن عبيد الله و أبو بكرٍ الصدّيق بالقرينين .
ثم جعلت الأيام تدور ، و الأحداث تتلاحق ، و طلحة بن عبيد الله يزداد مع الأيام اكتمالاً ، و بلاؤه في سبيل الله و رسوله يكبر ويتعاظم ، و بره بالإسلام و المسلمين ينمو و يتسع ، حتى أطلق عليه المسلمون لقب الشهيد الحي و دعاه الرسول عليه الصلاة و السلام بطلحة الخير ، و طلحة الجود ، و طلحة الفياض و لكل من هذه الألقاب قصة لا تقل روعة عن أخواتها .
أما قصّة تلقيبه بالشهيد الحي فكانت يوم أحد حين انهزم المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولم يبقى معه غير أحد عشر رجلاً من الأنصار و طلحة بن عبيد الله من المهاجرين .
وكان النبي عليه الصلاة و السلام يصعد هو ومن معه في الجبل فلحقت به عصبة من المشركين تريد قتله .
فقال عليه الصلاة و السلام : (من يرد عنا هؤلاء و هو رفيقي في الجنة؟)
فقال طلحة : أنا يا رسول الله .
فقال عليه الصلاة و السلام : ( لا ، مكانك(19) ) .
فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله .
فقال : ( نعم ، أنت ) .
فقاتل الأنصاري حتى قتل ، ثم صعد الرسول عليه الصلاة و السّلام بمن معه فلحقه المشركون ، فقال :
(ألا رجل لهؤلاء ؟!)
فقال طلحة : أنا يا رسول الله .
فقال عليه الصلاة و السلام : (لا ، مكانك) .
فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله .
فقال : (نعم ، أنت) ثم قاتل الأنصاري حتى قتل أيضاً .
و تابع الرسول صعوده ، فلحق به المشركون فلم يزل يقول مثل قوله ، و يقول طلحة : أنا يا رسول الله ، فيمنعه النبي ، و يأذن لرجل من الأنصار حتى استشهدو جميعاً ، و لم يبقى معه إلا طلحة فلحق به المشركون فقال لطلحة :
(الآن ، نعم . . . ) .
وكان الرسول عليه الصلاة و السلام قد كسرت رباعيّته(20) وشجّ جبينه ، و جرحت شفته و سال الدم على وجهه ، وأصابه الإعياء (21) فجعل طلحة يكر(22) على المشركين حتى يدفعهم عن رسول الله ثم ينقلب إلى النبي فيرقى به قليلاً في الجبل، ثم يسنده إلى الأرض ، و يكر على المشركين من جديدٍ . . .
وما زال كذلك حتى صدهم عنه . . .
قال أبو بكر : وكنت آنئذ أنا و أبو عبيدة بن الجراح بعيدين عن رسول الله ، فلما أقبلنا عليه نريد إسعافه قال :
(اتركاني و انصرفا إلى صاحبكما) ،< يريد طلحة>
.
فإذا طلحة تنزف دماؤه ، وفيه بضع و سبعون ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم . . .
و إذا هو قد قطعت كفه ، وسقط في حفرة مغشيّاً عليه . . .
فكان الرسول عليه الصلاة و السلام يقول بعد ذلك :
(من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض ، قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله) .
و كان الصديق رضوان الله عليه إذا ذكر أحد يقول : ذلك اليوم كله لطلحة . . .
هذه هي قصّة نعت طلحة بين عبيد الله بالشهيد الحي ، أما تلقيبه بطلحة الخير و طلحة الجود فله مائة قصّة و قصّة . . .
من ذلك أن طلحة كان تاجراً واسع التجارة عظيم الثراء ، فجاءه ذات يوم مال من حضرموت مقدراه سبعمائة ألف درهم ، فبات ليلته وجلاً(23) جزعاً محزوناً .
فدخلت عليه زوجته أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق و قالت :
ما بك يا أبا محمد ؟!!
لعله رابك(24) منا شيء !!
فقال : لا ، ولنعم حليلة (25) الرجل المسلم أنت . . .
و لكن تفكرت منذ الليلة و قلت :
ما ظن رجل بربه إذا كان ينام و هذا المال في بيته ؟!
قالت : وما يغمك(26) منه ؟!
أين أنت من المحتاجين من قومك و أخلاّئك ؟!
فإذا أصبحت فقسمه بينهم .
فقال : رحمك الله ، إنّك موفّقة بنت موفّق . . .
فلما أصبح جعل المال في صرر و جفان(27) و قسمه بين فقراء المهاجرين و الأنصار
وروي أيضا أن رجلاً جاء إلى طلحة بن عبيد الله يطلب رفده(28) و ذكر له رحماً تربطه به ، فقال طلحة :
هذه رحم ما ذكرها لي أحد من قبل .
و إن لي أرضاً دفع لي فيها عثمان بن عفان ثلاثمائة ألفٍ . . .
فإن شئت خذها و إن شئت بعتها لك منه بثلاثمائة ألفٍ ، و أعطيتك الثمن ، فقال الرجل :
بل آخذ ثمنها . . .
فأعطاه إيّاه . . .
هنيئاً لطلحة الخير و الجود هذا اللقب الذي خلعه عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنه و نور له في قبره .
_________________________________________________________
(*) للاستزادة من أخبار طلحة بن عبيد الله التيمّي انظر :
1- الطبقات الكبرى : 3 – 152
2- تهذيب التهذيب : 5 – 20
3- البدء و التاريخ : 5 – 12
4- الجمع بين الرجال الصحيحين : 230
5- غاية النهاية : 1- 342
6- الرياض النضرة : 2- 249
7- صفة الصفوة : 1- 130
8- حلية الأولياء : 1-7
9- ذيل المذيل : 11
10- تهذيب ابن عساكر : 7-71
11- المحبّر : 355
12- رغبة الأمل 4-16 ، 89
طلحة بن عبيد الله التيمّي
(1) بصرى : مدينة في بلاد الشام و هي الآن محافظة حوران في سوريا .
(2)حدثاً : صغير السن .
(3) الراهب : رجل الدين عند النصارى .
(4) الموسم : مجتمع الناس للحج أو للبيع و الشراء .
(5) أهل الحرم : أهل مكة .
(6) أرض ذات سباخ : أرض فيها نز و ملح .
(7) ينز : يتحلب .
(8) مطاياي : جمالي .
(9) رحلتها : وضعت عليها رحالها استعداداً للسفر .
(10) أهوي هوياً : اندفع مسرعاً .
(11) موطأ الأكتاف : لين الجانب .
(12) هلم معي : امض معي .
(13) جزعاً : حزناً وهلعاً .
(14) الطود : الجبل العظيم .
(15) الصفا و المروة : مشعران من مشاعر الحج يسعى الحجاج و المعتمرون بينهما.
(16) أوثقت يداه : كتفت يداه و ربطتا .
(17) ما شأن هذا الفتى : ما أمره و خبره ؟
(18) صبأ عن دينه : رجع عن دينه .
(19) مكانك : ألزم مكانك .
(20) رباعيته : سنّه التي بين الناب و الثنية .
(21) الإعياء : التعب .
(22) يكر : يهجم .
(23) وجلاً : خائفاً .
(24) رابك : أصابك : أصابك و ساءك .
(25) الحليلة : الزوجة .
(26) يغمك : يهمك و يدخل عليك الغم .
(27) جفان : جمع جفنة و هي القصعة الكبيرة .
(28) رفده : معونته و عطائه .